مرعب أن تعيش مع مريض بالكورونا تحت سقف واحد، تطارد عدوا لا تملك أن تراه فى كل ركن من بيتك، متسلحًا بأسلحة عاقرة من كل أنواع المطهرات والتعقيمات..
وموجع أن تتسلل الكورونا إلى صدرك وجسدك، وأنت منهك القوى، وقد خرجت من المعركة خاسرًا للتو، وهذا يومى الخامس وأنا محمومة، مرمية فى الفراش، وقد بدأت أرى الفيروسات تخرج من وسادتى، ومن فمي لتتسلل إلى صدري.. تنهش فى رئتى.
هذه “كوروناية” تتحرك بين أكوام العقاقير الى جانب السرير، والنافذة مفتوحة عن آخرها، يركض الصقيع متسللا الي الداخل، ينخر فى عظامى، ومن الخارج.. تهب من بعيد رائحة النيل الخاصة، وأصوات وهمهمات المارة تحت خص نافذتي الخشبى، تأتينى متقطعة كالهمهمات اللابشرية، تماما مثل تنهدات مخلوقات أغلق عليها ليلا في السيرك الذى تصادف أنه يجاور بيتى.
عبثًا ألملم ملامح الأيام السبعة الماضية، وماذا حدث فيها، عبثًا أتذكر صوت الدكتور “وجدي أمين” مدير عام إدارة الأمراض الصدرية بوزارة الصحة ومدير مشروع مكافحة الدرن، حينما استقبلني وابنى بمكتبه بمستشفى الصدر بالعباسية، حذرنى د. وجدي أمين وقتها من أن تنتقل إلىَّ عدوى الكورونا من ابنى بعدما أكدت المسحة إصابته بالفيروس اللعين للمرة الثانية: ( لا أحد كبير علي الكورونا).. وأوصانى ببرتكول للوقاية من المرض.
في الحقيقة.. لقد استقبلنا د. وجدي أمين فى مكتبه بوجه ملائكى صبوح طيب كعادته، ولم يردنا أبدا، وظل متواصلا معنا عبر العالم الافتراضى”الواتس”.. لم يبخل بأية نصيحة أو استشارة حتي الساعات الأولي من الصباح، كذلك فعلت د. أسماء النمر الشابة الطبيبة الواعدة من جند الله في الأرض، حيث يمكنك أن تجدها دوما في زيها الذي يشبه رواد الفضاء في باحة المستشفي، تنتقل بين هنا وهناك كنحلة لا ترد سائلا ولا مريضا.
ومرت خمسة أيام، كنت فيها ألهث خلف غرفة ابني كمن أصابها مس، إلى أن خارت قواى، وبدأ صدرى وظهرى يغليان بفوران محتقن كخلية نحل أحكموا إغلاق منافذها، لم أجد بعد الله غير بابه سبيلا أذهب إليه، ولم يردنى د. وجدي للمرة الثانية أيضا.
في غرفة الأشعة المقطعية توافد المرضى، أحدهم كان رجلًا مسنًا يجلس فوق مقعد متحرك، ومن خلفه كانت تتقدم به ممرضة تحمل له جهاز الأكسجين، فيما الحضور ينظرون فى رعب يسوده الصمت .. ترى فيما يفكرون؟
تحت جهاز الأشعه مددت جسدي المتعب، وثمة هياج ساكن يختنق حرارة، يتسرب من كل أبنية المستشفى العتيقة ومرئيات يومى كله تجثم فوق صدرى.
بعد الأشعة والتحاليل، كان لابد من إجراء مسحة للتأكد من وجود الفيروس من عدمه، وكان علىَّ أن أنتظر حتى الساعة الرابعة عصرا حتى يتثنى للطبيب المختص جمع استمارات كل المرضى لعمل المسحات اللازمة.
كان اليوم دافئًا على غير العادة، فيما أنا مصفحة تحت كل ما ثقل من ملابسى، وإلي أقرب مقعد شددت جسدى المرهق عن آخره وجلست في ركن من باحة المكان أمارس فضولى فى تأمل المرئيات من حولى، الأبنية، البشر المتعبون والمذعورون فى آن، ملائكة الرحمة، جنود الله في الأرض، وقبل أن تغوص الأبنيه شيئا فشيئا فى الغبار الرمادي للمساء، بدا لى العالم غريبا والنهار استثنائيا وأنا أنتظر عمل المسحة فى هذه الضاحية القاهرية حيث بنيت مستشفي صدر العباسية العتيقة فوق ربوة عالية عام ١٩٣٦ .
أمامى مبنى صغير عتيق شبه دائرى يتدلى من فوق نوافذه الضخمة ستائر رمادية عملاقة ومهترئة تظهر أكثر مما تخفى، بقايا أشجار مازالت طالعة من الأرض، وأشجار أخرى تركض في المدى بأوراقها الداكنة المشبعة بالغبار، وأبنية حديثة وأبنيه تحت الإنشاء، وطوابير بشر خلف السياج الحديدى للباب ينتظرون.
المرئيات كلها تستحم فى ظلال أفكار مرتعبة ومرتعشة، فيما أخذ الغروب يغزو الساحة الشاسعة، وصدري من الاختناق الغامض ها هو يمد ضلوعه بيني وبين كل هؤلاء الحضور المنتظرين بأقنعة مركبة علي الوجوه.
تمر أمامى هربانة صغيرة عارية كهيكل عظمى، وقد قيدت الى المقاعد الحديدية نساء يصرخن وجعا بدون صوت، رجل عجوز ربما يحتضر فوق مقعد متحرك، وقوافل من ملائكة الرحمة محملات بالأدوات الطبية والقطن والقفازات.
يضعني الطبيب فوق المقعد، ويأمرني أن أحني رأسى إلي الخلف كى يأخذ المسحة من أنفي، شىء حاد يلف داخل أنفى ١٨٠ درجة مرتين، وقبل أن أفيق ينغرز دبوس.. وتسقط الدموع من عينى.. ماذا حدث؟ كانت المسحة إيجابية.
أفيق من مرئيات الأمس، وما زال شيئا يجثم فوق صدرى ويضرب بقوة فى ظهرى، وكلما حاولت أن أنهض من مكانى يخفق قلبى خفقات متلاحقة كأنني أشارك في ماراثون للركض السريع، مرعب ألا تفهم ما يدور داخل جسدك، مرعب حقا أن تتخيل كل تلك الجيوش من الفيروس اللعين وهي ربما تنهش في رئتيك أو تعوم داخل أمعائك؟
طوال رحلتي في الحياة صادقت آلامي، وعشت ليالي طويلة بغرف المستشفيات بعد خروجى من عمليات كبيرة، ولكننى كنت الي حد ما أعرف ماذا يحدث داخل جسدى، وذات مرة طلبت من الطبيب الجراح أن يصور لي عمليه تركيب شرائح في كتفى، كنت أحس بالراحة لأنني أفهم ما يدور وأعرفه، ولكن مع الكورونا اللعينة أحسستنى أسير في حقل ألغام لا أعرف متى ينفجر، ولا أملك جهاز اكتشاف للغم الذى ربما ينفجر الآن في صدرى.
إنني أهذى، أعلم أنني أهذى، البرد يصعق الفراش، خمسة أيام منذ غزت الكورونا اللعينة جسدى، اليوم فقط بدأت أراها تخرج من وسادتى وصرخت هلعا، وادعى ابنى بأننى واهمه وأنها الحمى، لا مناعة لدى في بلدى، أنا شتلة عاشت فى غير أرضها سنوات وسنوات.. كيف أنجو؟
في اليوم الأول لمرضي لم أكن خائفة، ظننتنى أتوهم لكون ابنى مصاب بالكورونا، كعادتى فرحت بالقشعريرة الشرسة داخل جسدى، ولكن مع مرور الوقت بدت آلام من نوع لم أألفه، وها أنا أتلاشي شيئا فشيئا، لم تعد هناك قشعريرة، مجرد نار تشتعل فى ظهرى وتتسرب الي صدرى أو العكس لا أدرى، كل ما أعرفه أنها تعانقنى الى حد الاختناق.
آه كم رأسى ثقيل، يجب أن أكتب شيئا لمجلتى..منذ أسبوعين لم أكتب حرفا واحدا، مقياس الحرارة تحت لسانى وإصبع يدى داخل جهاز قياس الأكسجين، بصعوبة أفتح عينى، كم الساعة الآن؟
الألم يمزقنى، أشعر بأننى عاجزة عن تذكر تفاصيل الأيام الخمسة الماضية، لا لست مريضة، لست محمومة.. إنه الفيروس اللعين يريد أن ينال منى، والألم يكاد يمزق صدرى، وها هي الفيروسات اللعينة عادت لتخرج من من وسادتى، أحس صدرى بركان تكدست فوق فوهته الحمم (يغزو عيني بركان فيزوفيو الذي الذى وقفت على قمته أراقب اندلاع حممه بجبل فيزوفيو بمدينة نابولي الإيطالية منذ عشرين عاما) ياااه.. ها هى الذكريات تشتعل داخل رأسى كالحمم، لقد تعبت والألم في كل موضع من جسدي.. والحمم تزحف الي صدري..أتلاشي
يأتى الممرض كل مساء يغرس فى جسدى إبرا، ثم يهدأ كل شىء ويتركونى منعزلة في غرفتى وحدى، وأسمع صوتا يقول آه، وأميز أنه صوت وجعى، إننى أهذى.. ولا أستطيع أن أتوقف.
لا لست مريضة.. أنا لا أتقن فن المرض، أنا مصابة بهلاوس الكورونا
أفتح عيونى، الظلمة تقطن الخص الخشبى لنافذتى، لا أصوات في الشارع.. إنه الفجر بدأ يضىء.
نبضة مسافرة:
أنت وحيد الآن رغم هذه النجوم..المحور قريب منك وبعيد عنك.
“ايف بولفوا”