أسوان.. فتاة جميلة فى الجامعة
كل البلاد لها بصمات، وذكريات فى وجدان من عاشوا فيها أوزاروها زيارات قصيرة، و"أسوان" لها فى وجدانى بصمات، تمنيت أن أعيش فيها ورفضتنى، وتمنيت أن أتزوج واحدة من بناتها وخذلتنى، وعشقت امرأة عاشت فيها، لكنها ذبحتنى، ورغم هذا، مازالت أسوان عندى بلدا غاليا.
(1)
فى سنوات بناء السد العالى، كان من بين أهلى فى “كوم العرب ـ سوهاج” من يعملون فى حفرالترع وبناء جسم السد نفسه، ومنهم من حصل على شهادة تقدير من رئاسة الجمهورية موقعة بتوقيع الزعيم جمال عبدالناصر، وطوال السنوات التى سبقت بناء السد العالى والسنوات التى استغرقها بناؤه، كانت “أسوان” مقصد الباحثين عن العمل والمهتمين بقدرة المصرى على الإبداع والإنجاز والتحدى، واستضافت المدينة الجميلة، الخبراء الروس الذين ساعدونا بخبراتهم فى بناء السدود، واستضافت جاليات من بلدان أوروبا الشرقية، وتحولت إلى مقصد لكل المصريين الباحثين عن فرص عمل، واستفادت المدينة بوجود هؤلاء، على المستوى الثقافى والمستوى الاقتصادى، فعاشت حالة استنارة فكرية وحالة رخاء اقتصادى، وفى الوقت ذاته قدمت “النوبة” تضحيتها العظمى فى سبيل بناء السد، فانتقل النوبيون من بلداتهم الواقعة على النيل وقبلوا التهجيرفى سبيل خدمة الوطن.
(2)
وقبل التحاقى بالجامعة كنت أعرف المعلومات العادية التى يعرفها كل الناس عن “أسوان” ومصدر هذه المعلومات هو التليفزيون، وما تنشره الصحف وما تذيعه الإذاعة، لكن فى اليوم الأول لى فى قسم الصحافة فى “آداب سوهاج”، رأيت “أسوان” على هيئة فتاة جميلة، سمراء، خفق لها قلبى، وظل على خفقانه هذا، عامين دراسيين، وفى العام الثالث، أفاق قلبى من خفقانه أو ـ الوهم ـ الذى عاش فيه، لما رأيت “الحبيبة ” فى منطقة “نجع أبو شجرة” تتمشى مع شاب أسوانى أسمر، له شعر مفلفل، به شبه من الفنان “محمد منير”، والمحزن فى أمر “الحبيبة” أنها كانت تعانى من كثرة العاشقين المساكين وتتجاهل الجميع، إلى أن عثرت على من خفق له قلبها وكفت قلوبنا ـ البائسة ـ عن الانشغال بها وبجمالها الأفريقى الحارق.
(3)
ولكن فى الفترة ذاتها، فترة الدراسة الجامعية، عرفت “النوبة” واقتربت من زملائى النوبيين ونشأت بينى وبين بعضهم صداقات عميقة، وعرفت الفروق الثقافية بين “الكنوز” و”الفاديكا” و”الكشاف” وعرفت قبائل العرب “الجعافرة، الأنصار، العبابدة” و”السباعية” و”المرارى” و”المحاميد” و”عرب كيما” و”بنى هلال” و”القوصة” وهؤلاء تقريبا هم تشكيلة البشر التى تعيش على أرض أسوان والمراكز والقرى التابعة لها.
وعرفت من أهل النوبة صديقى “ميسرة السيد أحمد إدريس” من قرية “كروسكو” وشرح لى معنى اسم القرية باللغة النوبية ومعناه “مرحبا”، وشاءت الأقدار أن أسافر فى مهمة صحفية إلى قرى النوبة فى منطقة التهجير “وادى كوم أمبو” ورأيت عالما مدهشا، واقتربت من النوبيين وقررت أن أتزوج منهم، وخفق قلبى للمرة الثانية، واتخذت خطوات بلغت مرحلة “الشبكة والخطوبة” ولكن الأقدار كان لها رأى آخر، فلم يكتمل الزواج، وقرأت الروائيين النوبيين “إدريس على” و”يحيى مختار” و”محمد خليل قاسم” صاحب رواية “الشمندورة” التى كتبها وهو معتقل وسجل فيها تفاصيل حياة وثقافة المجتمع النوبى، بالتزامن مع عملية تهجير النوبيين من قراهم الأصلية إلى وادى كوم أمبو من أجل استكمال مشروع بناء السد العالى.
(4)
وأسوان “المبدعة” هى حاصل جمع أهلها من العرب والنوبيين، ورغم التمايز بين الثقافتين والاختلاف بينهما، لكن هناك ما يجمعهما ويقرب بينهما، وبالجوار والتعايش نشأت مناطق مشتركة، ونحن عرب مصر، نعشق الفنان “محمد منير” وهو الذى يتغنى بمقدمة سيرة بنى هلال التى أذاعتها الإذاعة وهى مقدمة من تأليف “الأبنودى” حارس السيرة، ونهوى سماع “محمد حمام” وهو يتغنى للوطن الصامد فى وجه العدوان “يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى” وهى من تأليف “الأبنودى” ونعشق ألحان “أحمد منيب” و”حمزة علاء الدين”، وتعجبنا روايات الوالد الراحل “عبد الوهاب الأسوانى”، وكل هؤلاء الكبار، أنجبتهم المحافظة الجميلة القلب والروح “أسوان” بوابة مصر الجنوبية المفتوحة على أفريقيا.
(5)
وهل يمكن أن ننسى جوهرة “أسوان” العربى الكردى “عباس محمود العقاد”؟ الكاتب الذى أطلق عليه “سعد زغلول” لقب “الكاتب الجبار” وكرمه الرئيس عبد الناصر، وسجنه الملك فؤاد بتهمة العيب فى الذات الملكية لما قال تحت قبة البرلمان قولته المشهورة التى فهم منها أنه يقصد إهانة الملك، ومعنى قولة ـ العقاد ـ إن الشعب قادر على حماية دستور1923 وبعد أن اختلف العقاد مع قيادة حزب الوفد، تفرغ للكتابة والترجمة، وقدم عدة كتب حول شخصيات بعض صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، ودافع عن الإسلام فى مواجهة المستشرقين والمشككين، وكان له صالون مشهور يحضره المثقفون والمبدعون حتى لقى ربه فى العام 1964.
(6)
ويخبرنا التاريخ عن “أسوان” فيقول إنها قديمة قدم الحضارة المصرية ذاتها وكان اسمها القديم “سونو” ومعناه “السوق” فقد كانت مركزا تجاريا مهما، وفى العصر البطلمى أطلق عليها اسم “سين” وأسماها النوبيون “يباسوان” وسكنتها القبائل العربية بعد الفتح الإسلامى، ولعبت أسوان دورا مهما فى محاربة “الهكسوس”، ولقيت “جزيرة فيلة” ـ الموجودة فى أسوان ـ اهتماما من جانب البطالمة فقاموا باستكمال بناء معبدها الكبير، وقام الرومان ببناء معابد فيها على الطراز الفرعونى ليتقربوا للشعب المصرى، وعندما أصبحت الديانة المسيحية ديانة رسمية للبلاد فى القرن الخامس الميلادى، تحول معظم هذه المعابد إلى كنائس.
(7)
فى العصرالمسيحى كانت “جزيرة فيلة” مقرا لإحدى “الأسقفيات”، ومنها انتشرت المسيحية جنوبا تجاه بلاد “النوبة” فى مصر والسودان، ومع الفتح الإسلامى ازدادت أهمية أسوان الاستراتيجية، فهى الطريق إلى ميناء “عيذاب” الواقع على البحرالأحمر، وهوالميناء الذى يربط مصر ببلاد الحجاز واليمن والهند.
(8)
رغم البعد الجغرافى بين “أسوان” و”القاهرة” لكن الفنون الشعبية الخاصة بأهلها، استطاعت الوصول إلى “جماهير العاصمة”، وأصبح المثقفون يعرفون “العطوانى” المنشد الصوفى، و”رشاد عبدالعال” مطرب “الكف”، و”أب برين” و” عبد النبى الرنان” و”العجوز”، وكل واحد من هؤلاء يقدم لونا غنائيا يخاطب القلوب، والتصوف ومايرتبط به من فنون، له فى “أسوان” مكانة كبرى، منذ عصر”صلاح الدين الأيوبى” الذى أسقط “العرش الفاطمى” واستبدل “التشيع” بالتصوف السنى، لكى يفصل بين “حب آل البيت” و”المذهب الشيعى” الذى يعتمد على هذا الحب، واهتم صلاح الدين بعلماء الإسلام فى “قنا” و”أسوان” واهتم بهاتين المدينتين فأصبحتا فى عهده قلعتين من قلاع التصدى للمذهب الشيعى، ورغم وجود “الرابطة الهاشمية” و”الجعافرة” فى أسوان إلا أن هذا لايعنى وجود أنصار للمذهب الشيعى، بل يعنى وجود محبين لآل البيت يدينون بالمذهب السنى.
(9)
رغم أن “أسوان” تقع فى أقصى الصعيد، وتتبع إداريا إقليم “جنوب الصعيد” إلا أن الشخصية الأسوانية لا تميل إلى العنف الذى يميز “الصعايدة” ونسبة الجريمة فى هذه المحافظة هى الأقل، لو قارناها ببقية محافظات الصعيد، و”أسوان” يحظى أهلها بمحبة المصريين جميعا فى الدلتا والسواحل والصحارى، فالكل يحب “ناس أسوان” الطيبين.
معلومات
- عدد سكان محافظة أسوان حسب الإحصاء الأخير “مليون و505 آلاف و548 نسمة.
- مراكز أسوان الإدارية هى: أسوان ـ كوم أمبو ـ دراو ـ إدفو ـ نصرالنوبة.
- محافظة أسوان هى مصدر الماء والكهرباء الذى يغذى جميع محافظات مصر وفيها السد العالى وبحيرة ناصر.
- متحف النوبة الموجود فى مدينة أسوان يسجل تاريخ الحضارة النوبية فى العصورالتاريخية المختلفة ويقصده السائحون من كل مكان.
- معبد أبو سمبل الذى شيده الملك رمسيس الثانى من أهم المزارات الأثرية فى أسوان، وفيه تحدث ظاهرة تعامد الشمس مرتين، الأولى يوم ميلاد الملك والثانية يوم توليه عرش البلاد.